حينما يقضي أي إنسانٍ في العيش أو في العمل لفترةٍ طويلة نسبية من الزمان، ضمن أي موقعٍ أو مقرٍ أو مكان، فإنه بلا شك يكون في الغالب قد حصدَ الكثير من النجاحات أو ما يمكن أن يُطلق عليها أحياناً الإنجازات، مع حدوث بعض الإخفاقات من هنا وهناك، والتي قد تفرضُ نفسها على الجميع، في ضوء مجموعة من الظروف أو القضايا أو الأحكام، بحيث تتداخل هي الأخرى كي تُخرِجها إلى عالم الواقع، سواءٌ كان بإرادتنا أو عنوةَ عن رغبتنا.
ويتعاظم دور هذه الإنجازات كثيراً، إذا كان صاحبها يُحاكمُ نفسه جيداً من وقتٍ لآخر، للتعرف إلى مواطن القوة أو النجاحات التي حققها، والأسباب التي أدت إليها، كي يستفيد منها لبذل أقصى جُهدٍ ممكن مستقبلاً، من أجل تهيئة الظروف الملائمة لتلك الأسباب حتى تعود من جديد لتكرار تلك النجاحات. وفي الوقت ذاتهِ يحاول تحديد الإخفاقات أو نقاط الضعف التي مرّ بها، والإلمام بالعوامل التي ساهمت في إيجادها، تمهيداً لأخذ الدروس التي تفيدهُ في عدم تكرارها ثانية تحت أي ظرفٍ أو شرطٍ أو احتمال.
ويزداد ذلك الشخص حرصاً على مضاعفة إنجازاته والتقليل من إخفاقاته، كلما ارتفع مستواه العلمي والثقافي من ناحية، وكلما ازدادت مسؤولياتهِ الأكاديمية والمجتمعية من ناحيةٍ ثانية. وفي جامعة السلطان قابوس بسلطنة عُمان، قضيتُ عقداً كاملاً من الزمان، في القيام بعملية التدريس على مستوى الدراسات الدنيا والدراسات العليا، ورئاسة قسم المناهج وطرق التدريس، الذي كان يلتحق به وقتها خمسة وأربعون شخصاً من مختلف الرُتَبِ العلمية.
ومن بين أهم هذه الإنجازات التي أعتزُ بها وتمّت خلال هذه الفترة الزمنية، تخريج نحو خمسة آلاف معلم ومعلمة من حملة البكالوريوس في التربية من عشرة تخصصات هي: تدريس التربية الإسلامية، وتدريس اللغة العربية، وتدريس اللغة الإنجليزية، وتدريس العلوم، وتدريس الرياضيات، وتدريس التاريخ، وتدريس الجغرافيا، وتدريس الفلسفة، وتدريس التربية الرياضية وتدريس التربية الفنية. وقد التحق هؤلاء الخريجون فوراً بالمدارس العُمانية، كي يرفعون من نسبة المدرسين العمانيين فيها أولاً، ويخففون من استقطاب المزيد من أقرانهم من الأقطار العربية والأجنبية ثانياً. كما تمّ أيضاً تخريج نحو خمسين من حملة الماجستير في تخصصات قسم المناهج وطرق التدريس، ليكونوا مؤهلين للعمل خبراء في المناهج بوزارة التربية والتعليم العُمانية، أو العمل كمشرفين تربويين في مختلف المراحل التعليمية المدرسية.
كما يُمثل نجاح تطبيق برنامج التربية العملية في قسم المناهج وطرق التدريس، ليس مجرد إنجاز إداري فحسب، بل وقبل ذلك مثار إعجاب كل من زار القسم من داخل السلطنة وخارجها، وبخاصةٍ إذا شاهد كيف أن عشرات الحافلات التي كانت تنطلق في الصباح الباكر من أمام كلية التربية، متجهةً إلى عشرات المدارس التي تقع حتى على مسافة أكثر قليلاً من خمسين كيلومتراً عن مبنى الجامعة، كي يقوم أكثر من خمسماية طالبٍ وطالبة بتطبيق ما تعلموه أو اكتسبوه من معارف ومهارات واتجاهاتٍ تربويةٍ مرغوبٍ فيها داخل المدارس الحكومية، تمهيداً لكي يصبحوا معلمي الغد ومعلماته.
وكانت القفزة النوعية الأخرى من الإنجازات التي تمت خلال عملي رئيساً لقسم المناهج، تتمثل في فتح برامج ماجستير التربية في أربعة تخصصات دقيقة هي: المناهج وطرق التدريس، والإدارة التربوية، وأصول التربية، وعلم النفس التربوي. وقد التحق بهذه البرامج عشرات الطلبة العُمانيين، الذين ربما لولا توفير إدارة الجامعة مثل هذه الفرصة القيمة لهم، لما أتيحت لهم إمكانية الحصول على هذه الدرجة العلمية، التي ساعدت بعضهم على إكمال دراساتهم العليا للحصول على الدكتوراة من جامعات أجنبيةٍ عريقة، ثم العودة للعمل أعضاء هيئة تدريس في الجامعة ذاتها.
ونظراً لاستلامي لرئاسة لجنة الدراسات العليا في الكلية، فقد عملتُ على توثيق العلاقة مع جامعاتٍ عربية وأجنبية مرموقة من أجل اختيار محكمين خارجيين لمناقشة رسائل الماجستير في الكلية، من جهابذة تخصصات المناهج، وعلم النفس التربوي، والإدارة والأصول التربوية، في العديد من الجامعات المصرية والكويتية والقطرية والبحرينية والإماراتية والأردنية والسودانية والتونسية والمغربية والبريطانية والأمريكية. وقد ساهم ذلك كلهِ في تدعيم سلامة النهج الذي قامت عليه رسائل ماجستير التربية في جامعة السلطان قابوس من جهة، وانتشار سمعة المستوى الرفيع لتلك الرسائل وزيادة مصداقياتها بين الجامعات المختلفة من جهةٍ ثانية.
وبعد أن زادت فرص نجاح برامج الماجستير في التربية، والتي فرضت نفسها على أرض الواقع، فقد اقترحتُ شخصياً في إحدى الأيام على عميد كلية التربية آنذاك الأستاذ الدكتور محمد الشبيني خلال ربيع عام 1995، أن يستأنس برأي رئيس الجامعة ووزير التعليم العالي حينئذٍ د. يحيى بن محفوظ المنذري، بأن نفكر جدياً في فتح برنامجٍ للدكتوراة في التربية. ولم أكن أتوقع أن تلاقي هذه الفكرة استحسان إدارة الجامعة بمثل هذه السرعة، حيث وافق الرئيس عليها، وطالب بتشكيل لجنةٍ مصغرةٍ وعمل عصفٍ ذهني حول الموضوع، ثم تزويده بتوصياتٍ محددة، مما سارع في وتيرة عقد الاجتماعات المتواصلة بيني كرئيس لجنة الدراسات العليا في الكلية وبين العميد ورؤساء الأقسام التربوية الأربعة المعنية.
وبعد مناقشاتٍ مستفيضة حول الموضوع، تمَ الاتفاق على استضافة عدد من أساطين هذه التخصصات التربوية التي سنقيم برامج الدكتوراة عليها، وذلك من أساتذة كلية التربية بجامعة عين شمس المصرية المشهورة. وبالفعل، حضرت مجموعةٌ منهم لمدة تقارب الأسبوعين، تم خلالها عقد اجتماعاتٍ عديدةٍ ومطولة تخللتها مناقشات قيمة، أعقبها إلقاء محاضرات عامة وتخصصية من جانبهم، ثم التوصل إلى طرح مجموعةٍ من الاقتراحات والتوصيات بهذا الشأن. وما أن غادر الضيوفُ الجامعة، حتى طلب مني عميد الكلية بلورة ما تمَ الوصول إليه وإعادة صياغته بما يتفق مع قوانين الجامعة وأنظمتها وتطلعاتها. وهذا ما دفعني إلى عقد اجتماعاتٍ إضافيةٍ مع رؤساء الأقسام المعنية لمراجعة ما سبق التوصل إليه، ثم تنقيح ما يلزم منه عن طريق الإضافة أو الحذف. وفي النهاية، قمتُ بكتابة التقرير النهائي لإنشاء برنامج الدكتوراة وتمريرهِ إلى العميد، الذي عرضهُ بدورهِ على مجلس الكلية، وتمَ اعتماده ثم رفعه لرئيس الجامعة.
وما كان من الرئيس بعد ذلك، إلا أن نقل لعميد الكلية موافقته على التقرير، وإعطاء توجيهاتٍ جديدة بضرورة وضع الخطط الدراسية، واقتراح ميزانية لتلك البرامج من أجل استقدام ما قد تحتاجه من أعضاء هيئة تدريسٍ جدد، إضافة إلى الموجودين منهم، على أن يبدأ العمل بتلك البرامج واستقبال الطلبة فيها اعتباراً من مطلع العام الجامعي 2000- 2001م. وقد عمت الفرحة والسرور الجميع، ولا سيما الطلبة الملتحقين ببرامج الماجستير أو الذين تخرجوا منها، بعد أن لاحت لهم تباشير الالتحاق بهذه البرامج المقترحة للدكتوراة. ولكن للأسف الشديد لم يستكمل مشروع برامج الدكتوراة بسبب ظروف طارئة.
ومن الإنجازات العلمية الأخرى التي لا يمكن نسيانها خلال وجودي بجامعة السلطان قابوس، العمل الجاد والمضني مع عميد الكلية الجديد آنذاك أ.د. رشدي أحمد طعيمة، ومديرة مركز البحوث التربوية آنذاك د. ثويبة البرواني، ورؤساء الأقسام جميعاً، على تأسيس دورية علمية مُحَكَمة تحت عنوان: (سلسلة الدراسات التربوية والنفسية)، والتي ظهرت إلى النور عام 1996م، بخمسة بحوث تربوية، كان الأول منها بعنوان: قدرة التفكير الإبداعي لدى طلبة جامعة السلطان قابوس، من إعداد كلٍ من د. جودت سعادة، و د. يوسف قطامي.
هذه كانت أهم الإنجازات التي تحققت وليست جميعها، أما عن الإخفاقات فقد تمثل أهمها على الإطلاق في عدم نجاحنا بإقناع كل من عميد الكلية، والأمين العام للجامعة، ورئيس الجامعة الجُدد، بضرورة استكمال إجراءات البرامج التربوية المقترحة للدكتوراة، وذلك لعدم قناعتهم بذلك، مما أحدث صدمة لدى جميع الذين كانوا يطمحون برؤية برنامج الدكتوراة، كأول برنامج على أرض الواقع في جامعة السلطان قابوس.
وباختصارٍ شديد، فإن شهادة الناس للفرد تدور في الغالب حول إنجازاته الحقيقية التي تترك بصماتٍ على أرض الواقع، وليس بأقوالهِ مهما ارتفعت نبراتُ صوته، أو زادت حماسته الكلامية. ويظل الإنسان كعادتهِ يعتز بتلك الإنجازات التي ما زالت ماثلةً للعيان، وبشهادة من عايشوهُ أو تتلمذوا على يديه، ناسياً أو متناسياً بعض الإخفاقات، التي لم تكن لتحدث إلا بسبب أن كل واحدٍ فينا يُخطِئ كما يُصيب، بل ويستفيد من أخطائه أحياناً أكثر مما يستفيد من نجاحاته، حتى يأخذ العِبرة من تلك الإخفاقات مستقبلاً، ولا يقع فيها مجدداً، ولكنه في الوقت نفسه، يعمل جاهداً على تهيئة الأجواء أو الظروف التي تُسهم بقوة في تكرار نجاحاتهِ، من أجل صنع إنجازاتٍ جديدة تخدم الناس، وتضع وسام التميز على صدره بكل ثقة واقتدار.