meead khater يوم واحد مضت
عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
بمناسبة رحيل السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله ، فإن موقع “عروبة الإخباري” ينشر سلسلة حلقات عن حياة الراحل ومسيرته الغنية في بناء الدولة العُمانية، والتي استمرت لنصف قرن استطاع فيها أن يضع عُمان على خارطة العالم المتفاعل، وأن يقدمها كنموذج للسلام والتعاون والشراكة في منطقتها ومحيطها العربي وبعدها العالمي.
لقد كان السلطان قائدا عظيما، التف حول جنازته ومشى خلفها قادة من كل دول العالم وبعضهم لم يلتق مع صديقه أو خصمه إلا في جنازة هذا القائد الذي ظلت سياسته تقبل القسمة على الجميع، ويرى فيه الجميع رجل محبة وسلام وعطاء.
الحلقة السابعة.. السلطان والسلطنة .. بناء مؤسسات الدولة
كان على السلطان قابوس – منذ اللحظة الأولى لتوليه السلطة – أن يبني أداة التغيير وهي الحكومة أو الذراع التنفيذي، وأن يذلل كل الصعوبات الطبيعية ، والطارئة في وجه خياراته ، لم يكن سهلاً بناء هذا الجهاز وتنظيمه لعوامل ذاتية، أبرزها غياب الكفاءات التي كان أكثرها مهاجراً وأيضاً غياب الخبرة وفقدان عُمان الناشئة حديثاً على يده إلى هياكل مؤسساتية ؛ ولذلك كان عليه أن يعمد إلى المتوفر وأن يستعين بالممكن وأن يستقطب الذين هاجروا وأن يدرب الذين يمكنه لن يجذبهم للعمل معه . لقد وجد أن الجهاز الذي كان قائماً من عهد والده لا يصلح وهو السبب في التعطيل ويشكل العائق الأساس.. وكانت السلطنة تعتمد عشية تولي السلطان صلاحياته على (1750) موظفاً فقط ولم يجد بدءا من أن يتولى مجلس استشاري مؤقت من شخصيات يثق بها السلطان وكان خيار تشكيل المجلس الأعلى لتخطيط التنمية الاقتصادية يسد فراغاً ، إلاّ أنه لم يدم طويلاً . كانت عينا السلطان قابوس على إشراك شعبه وإلاّ ما قيمة التطور والتنمية والبناء إن لم تكن من أجل الإنسان العماني، وإن لم يكن الإنسان العماني شريكا فيها، ومع أنه رأى أنّ البنى التقليدية الموروثة تشكل عائقاً الاّ أنه كان يدرك أنه لا يجب في هذه المرحلة تدمير البنى القبلية أو تفكيكها بسرعة، طالما لم يتوافر البديل الكافي. ولذا وعد المشايخ أن الدولة سوف تساعدهم مع ادراكه أنه لابد من الاعتماد على النظام الملكي السلطاني وتطويره وتعزيزه كمؤسسة سياسية، وجعله غنياً ومرناً لأنه الذي يستطيع أن يضمن سلامة عمان وقدرتها على مواجهة التحديات، وإلاّ لما كان هناك مبرر لعزل سعيد بن تيمور . ولذا نجد كيف بدأ البناء مدماكاً فوق الآخر وحجراً إلى جانب الاخر حتى اعتلى البناء خلال خمس عقود بنيت فيه مؤسسات الدولة كافة وسلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية، فكان النظام الاساسي للدولة وكانت الحكومة وكانت البدايات مع المشاركة الشعبية وتطور العمل الديمقراطي، واعتماد الانتخاب للسلطة التشريعية مجلس الشورى وللبلديات وبدأت خطوات الإصلاح تتوالى على أكثر من مستوى وصعيد.
لقد اعتمد السلطان قابوس خمسة مسارات مترابطة لتحقيق الوحدة الوطنية وإنجاز السلام الاجتماعي واكبت بناء مؤسسات الدولة .
في المسار الاول :
كان أنهى مخاطر الانقسام مستعيداً الوحدة السياسية والإقليمية لعمان ، وحوّلها إلى وطن لكل العمانيين ووفر مُناخات المصالحة الداخلية وتصفية آثار الصراع ، وأعاد جمع شمل العائلات ودعا الذين غادروا سواء كانوا معارضين أو باحثين عن الرزق أو خائفين مما كان حدث إلى العودة والانخراط في الحياة العامة والمشاركة حتى في قيادة المسيرة ، وأفسح المجال للكثير من أن يحققوا طموحاتهم وأن يقنعوا غيرهم بصواب المسيرة ومد يد العون لمواطنيه منذ اللحظة الأولى، فخفض أسعار المحروقات ووفر للشباب إمكانية إيجاد فرص عمل لهم وأشعرهم أن هذا الوطن لهم وعليهم أن يضحوا من أجله وأن يتحملوا بداية في سبيل إعادة بنائه والحفاظ على مجده .
• أما المسار الثاني ففيه توسيع وتطوير الجهاز الإداري للدولة وتحويله إلى أداة للدمج الاجتماعي والتماسك الوطني، لأن الحكومة في النهاية هي جهاز اداري تنفيذي، ولأن الدولة تحتاج إلى عمود فقري هي الحكومة ليتمكن الجسد من الحركة .
• أما في المسار الثالث فهو رغبته في إنقاذ عمان وبنائها فاستوعب داخل الجهاز الإداري مختلف القوى والعناصر والفئات والمكونات الاجتماعية العمانية، وظل وهو يبني يحرص على دحر النفوذ القبلي بالتدريج ليحل محل ذلك عقلية وطنية جديدة تؤمن بالولاء للوطن والمؤسسة وتسند الدولة وتنتمي إليها وليس لأي انتماءات فرعية أو جانبية .
• وفي المسار الرابع عمل على توظيف السياسة الخارجية لخدمة الأهداف الداخلية في التنمية والاستقرار.
• وفي المسار الخامس رأى ضرورة المشاركة من جانب المواطنين في إدارة البلاد ،وهذه المشاركة يجب أن تقوم من خلال المؤسسات وبنائها ومن خلال تطور المشاركة بأسلوب ديمقراطي متدرج وهذا التدرج المحسوب أراد السلطان قابوس أن يتم التأكد فيه من كل خطوة جرى قطعها ، حتى لا يقع النكوص أو العودة إلى الوراء، فلا يأتي أي تطور على شكل حرق مراحل أو قفزات في فراغ أو هروب إلى الأمام حتى لا تقع الأخطاء ويجري الاستقواء على التغيير وتفشل الدعوة إليه .
ولذلك جاء التطور الديمقراطي موضوعياً ومتزناً ومحسوباً وجرى تقسيمه إلى مراحل يمكن رصدها :
مراحل التطور الديمقراطي
• الاولى : وهذه المرحلة بدأت في العام 1991 وكان الناخبون فيها يتمثلون فقط في مجموعة مختارة من ( الشيوخ والأعيان والوجهاء ) في كل ولاية يقومون بترشيح ثلاثة أسماء سواء بالتراضي فيما بين الحضور لجلسة الترشيح أو من بين الحاصلين على أعلى الاصوات، في حالة غياب التراضي حول الأسماء المطروحة وكانت الخطوة التالية هي اختيار حكومي لأحدهم ليكون عضواً في المجلس .
• الثانية : وهذه المرحلة من البناء الديموقراطي جاءت العام 1994 وقد حققت نظاما للترشيح يفرض أن يقوم الناخبون ( الشيوخ والوجهاء والأعيان والمثقفون والتجار ) بترشيح عضوين فقط لكل من الولايات المطلوب تمثيلها بعضو واحد، وهو ما يعني تضييق سلطة الحكومة في الاختيار وبالمقابل توسيع حق المواطن في تحديد مرشحيه بشخصين، وبنفس المعيار كان التعامل مع اختيار ممثلي الولايات التي يتم تمثيلها بعضوين والتي يزيد سكانها عن (30) ألف نسمة حيث تختار الهيئة الانتخابية في كل من هذه الولايات أربعة اشخاص ترجح الحكومة اثنين من بينهم، ما يعني المناصفة وقد شهدت هذه المرحلة تغيراً هاماً وهو السماح للمرأة ولأول مرة في السلطنة وحتى دول مجلس التعاون الخليجي بالمشاركة في تسمية المرشحين لعضوية المجلس، وكذلك حقها في طرح نفسها كمرشحة لتكون عضواً في المجلس ، لكن ذلك كان قاصراً فقط على نطاق الولايات الست لمحافظة مسقط العاصمة ونجحت حينها بالفوز بمقعدين ..
• الثالثة : فقد بدأت في صيف العام 1997 حيث أطلق حق المرأة في المشاركة بعميلتي الترشيح والترشح في كافة الولايات العمانية، ولم تعد محصورة داخل ولايات محافظة مسقط وحدها مع حدود تغير آخر اضافيا يتعلق بمن لهم حق التصويت، حيث توسعت قاعدة الناخبين وكان مجموع الناخبين المفترض أنهم يدلون بأصواتهم آنذاك وفق هذه القاعدة (51) ألف مواطن ومواطنة ، وقد أسفرت هذه المرحلة عن فوز امرأتين ضمن حدود محافظة مسقط أيضاً وذلك من بين 27 مرشحة ..
• الرابعة : فقد بدأت العام 2000 وقد سجلت متغيراً إضافياً تمثل في المزيد من توسيع قاعدة المشاركين في عملية الترشيحات – الناخبين – الى 175 الف مواطن ومواطنة وهو العدد الذي كان يشكل حينها نسبة 25% تقريباً من بين العمانيين الذين تبلغ أعمارهم 20 عاماً فما فوق .
وهذا يعني توسيع دائرة المشاركة إلى ثلاثة أمثالها، مما كان مقرراً في الفترة الثالثة ، وقد شهدت هذه المرحلة أيضاً الغاء التدخل الحكومي تماماً أي إلغاء أي حصة أو ” كوتا ” حكومية وهو ما كان يسمى ” تسمية ” أعضاء مجلس الشورى من بين الفائزين بالمواقع الأربعة المتقدمة في الولايات التي يزيد عدد سكانها عن (30) ألف نسمة المطلوب تمثيلها بعضوين، ومن بين الفائزين الاثنين في الولايات التي يقل عدد سكانها عن هذا الرقم والمطلوب تمثيلها بعضو واحد .
• الخامسة : وقد شهدت تطوراً هاماً على مسار الديمقراطية المؤسسية في السلطنة حيث جرت انتخابات 2/10/2003 في ظل إطلاق حق المشاركة الانتخابية ليكون لجميع المواطنين ممن بلغوا (21) سنة دون تحديد نسبة معينة من أبناء كل ولاية على النحو الذي تمت على أساسه الانتخابات في الفترات السابقة . كما تم رفع مستوى الإشراف القضائي حيث تقرر أن تضم اللجنة الرئيسة بصفتها القائمة على إجراءات العملية الانتخابية كلا من وكيل وزارة العدل واثنين من نواب رئيس المحكمة العليا وفتح المجال كاملاً أمام المرأة للمشاركة في العملية الانتخابية دون التقييد بنسبة معينة تقديراً لدورها الأساس البارز في البناء والنهوض بالمجتمع .
كما حملت هذه المرحلة إضافة نوعية تمثل في السماح لأي مرشح القيام بالدعاية الانتخابية من تاريخ إعلان القوائم النهائية للمترشحين وتستمر لليوم السابق مباشرة لليوم المحدد لإجراء الانتخابات ، وشهدت تلك الفترة ايضاً متغيراً اخر تمثل في جواز تشكيل لجان انتخابية في بعض سفارات السلطنة تمارس نفس المهام لدى لجنة الانتخابات والفرز .
• السادسة :وقد جرت في 27/10/2007 حين توجه 388 ألفاً و 672 ناخباً وناخبة من بينهم 155 ألفاً و 30 ناخبة إلى (102) مركز اقتراع في (61) ولاية عمانية لاختيار ممثليهم، وقد امتدت هذه المرحلة إلى أكتوبر من العام 2011 حيث شهدت السلطنة انتخابات الفترة السابعة والتي تستمر حتى اكتوبر العام 2015 وقد شهد المجلس في فترة السابعة العديد من المتغيرات استهدفت نقل التجربة العمانية خطوات للأمام من أجل تكامل العمل البرلماني وتعزيز دولة المؤسسات والقانون وفي هذه المرحلة تطورت افاق الشراكة بين المجلس وبين الحكومة في كل ما يهم الوطن ويدعم من مسيرة التنمية الوطنية .
وقد كانت الإضافة النوعية لهذه المرحلة ممثلة في انتخاب المجلس رئيسا له من بين أعضائه، وهذه أول ممارسة فعلية للصلاحيات الجديدة ، وهي المرة الأولى التي يتم فيها انتخاب رئيس المجلس من بين أعضائه وكان مجلس الشورى خلال انعقاد فترته 2012 – 2013 والتي تنتهي العام 2015 ،قد وسع نشاطاته داخلياً بعقد جلسات لمناقشة الوزراء حول خطط وزرائهم واستجوابهم عليها واعتماد اللائحة الداخلية ، وبهذا التطور الذي بدأ العام 1991 ومازال مستمراً حتى اليوم من العام 2014 فان ما أرساه السلطان قابوس من إنجاز في هذا المجال مكن من قيام حوار وتعاون بين مجلس الوزراء ومجلس عمان، وكل ذلك يستهدف خدمة العمل الوطني ودفع عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والارتقاء بالإنسان العماني .
إن ما أنجز من تدرج ديمقراطي في بناء المؤسسة التشريعية واكب التقدم في مجال السلطات الاخرى ولعل أميز ما توصف به التجربة العمانية في رأيي هي أنها متدرجة واعية تختبر نفسها بين الحين والآخر وتستلهم بناءها من وعي وعادات وتقاليد وتطلعات وآمال الشعب العماني ومن رؤية قائده الثابتة والخبيرة والمواكبة ، كما أن هذه التجربة تعتمد على قدراتها وخصوصيتها ولا تستعير الشعارات أو تستهدف صناعة خطابين واحد خارجي لتسويق العملية وآخر داخلي للمواطنين وإنما تريد هذه التجربة الديمقراطية العمانية في تكاملها أن تشكل رافعة حقيقية للأمن الوطني وللاستقرار وبناء التنمية المستدامة وتحسين أوضاع المواطنين ..
ولنا أن نلاحظ كيف حفرت التجربة الديمقراطية العمانية طريقها عميقاً وبالتدرج خلاف تجارب أخرى في منطقة الخليج وفي الإقليم أصابها الشطط وواجهت انقسامات وتعاملت مع وقائع نظرية أو تشابكت فاختلطت صلاحيات السلطات ووقع الخلط فيها مما سبب الاستقواء وتغول سلطة على اخرى ..
مرحلة المجالس البلدية :
إن الإضافة النوعية في التجربة الديمقراطية العمانية هي انتخابات المجالس البلدية، والتي جرت في أكتوبر العام 2011 وقد أتيح لي أن احضر مجرياتها وأن أراقب وأن أغطي وقائعها وأن أنقل الصورة الحيّة والناضجة لها ،رغم أنها تجربة أولى للانتخابات البلدية في عمان، ومع ذلك ولدت هذه الانتخابات وحققت أهدافها كما لو أن السلطنة تعيش هذه الانتخابات لسنوات طويلة .
لقد أسهم تدشين المجالس البلدية المنتخبة في بعث حقيقي لنواة المجتمع المدني العماني وتوسعته ، واعتبار الانتخابات البلدية عنواناً اساساً من عناوينه ، وهذه المرحلة التي عبرت التجربة العمانية بسلاسة جرى التخطيط لها فجاءت في زمنها للتواكب مع التطورات الملموسة على الديمقراطية العمانية عن طريق صندوق الاقتراع ، حيث انتخابات مجلس الشورى للفترة السابعة مازالت فترتها مستمرة حتى 2015 ، وهي تحمل للعمانيين مشاركة أوسع وأشمل وتمكنهم من المشاركة في بناء مسيرة وطنهم خلف قائد مسيرتهم السلطان قابوس .
لقد جرت انتخابات المجالس البلدية في 22/2/2012 لاختيار (192) عضواً في محافظات السلطنة الإحدى عشرة وقد بلغت نسبة المشاركة في هذه الانتخابات 50.3 % وهي 61.3 % للذكور و 38.7 % للنساء ، وقد رأينا التصويت بالنظام الآلي، كما تم بث نتائج الفوز فيها عن طريق الشبكة العالمية للمعلومات ؛ ما مكن المراقبين من متابعتها أولاً بأول ، وكانت المرأة العمانية أيضاً قد تصدرت المتنافسين واستطاعت أربع نساء الفوز بعضوية المجالس البلدية وللمجالس البلدية في عمان صلاحيات واسعة ومتجددة ومتسعة وذات طبيعة استشارية وتنفيذية .
من كتاب سلطنة وسلطان .. أمة وقائد السلطان قابوس بن سعيد / المؤلف سلطان الحطاب
يتبع الحلقة الثامنة ..