استثمار الموارد وتنويع مصادر الدخل أساس الرؤية الاقتصادية –
عمان:
اعتمدت الرؤية الاقتصادية للنهضة العمانية في سعيها لتحقيق التقدم الاقتصادي على
مبدأين أساسيين هما؛ استثمار الموارد الطبيعية وتنويع مصادر الدخل الوطني. وقد
ارتبط هذا التقدم بترقية المواطن وتحسين أحواله المعيشية، ومن ثم فلم يكن تقدم
الاقتصاد هدفًا لذاته بقدر ما كان وسيلة لغاية أسمى وهي رفاهية المواطنين.
وظهرت الرؤية العمانية لتطوير الاقتصاد منذ فجر النهضة المباركة إذ حرص السلطان
قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه ـ على التذكير بالمعاني والأسس التي يمكن من خلالها
ترقية الاقتصاد، ففي خطابه في العيد الوطني الرابع في 18 نوفمبر من عام 1974م أشار
ـ رحمه الله ـ إلى أن: «استغلال كافة الموارد الاقتصادية في بلادنا يشكل عاملا
هاما في المرحلة المقبلة من أجل تحسين دخل الفرد وارتفاع مستواه الاقتصادي».
وقد استلزم الأمر نبذ أسلوب الارتجال، ومن ثم حشد الطاقات ووضع «خطة طموحة تهدف
إلى تحقيق تنمية شاملة، فعالة ومتوازنة موضوعة وفق برنامج مدروس يقوم على حصر
الموارد والطاقات المختلفة للمجتمع وتوجيهها بالاستغلال الأمثل».
وفي
خطابه إلى الشعب في 26 نوفمبر من عام 1975م تحدث السلطان قابوس ـ رحمه الله ـ عن
واقع الاقتصاد العماني في ذلك الوقت وما حققه منذ بداية النهضة، مؤكدا أهمية
إيرادات الدولة في تحقيق التنمية وصيانتها، إذ قال: «إننا منذ بداية عهدنا رأينا
أن الحركة التجارية تتم بصورة اجتهادات فردية في أسواق تقليدية دون قوانين وبمعزل
عن التوجيه والرعاية، ولم يكن الحال بالنسبة للصناعة أفضل من التجارة، حيث كانت
بعض الصناعات اليدوية البدائية في البلاد هي كل شيء، ولا يخفى أن الاقتصاد هو عصب
الدولة وأهم أسباب قوتها وتقدمها، لذا وجدنا أن نواجه التوسع الهائل في الحركة
التجارية خلال السنوات الأربع الماضية بإنشاء وزارة التجارة والصناعة».
وأصبحت الرغبة في تحويل التجارة والمنتجات التي كانت تتم قبل النهضة بشكل بدائي
إلى برامج وخطط مدروسة وقوانين ضابطة ثورةً حقيقية في نظم التجارة والتعامل مع
العالم الخارجي. كما أصبحت كذلك ثورة في الصناعات والتحديث وإحداث نقلة ملموسة
ترتكز على التخطيط والعلم في كل شيء. وبهذه الرؤية والوعي بمتطلبات الواقع أعلنت
السلطنة عن تخلصها من البدائية والتلقائية بالانتقال إلى النظام والقيمة والمفهوم
والعمل المؤسسي وما يتطلبه ذلك من دوائر حكومية تنفيذية لمتابعة ومراجعة ما تحقق
من اتساع في مجالي التجارة والصناعة ومساهمتهما في التنمية، وقد كانت النتائج
واضحة ومبشرة وفي زمن وجيز.
استثمار ثروات الوطن
وفي خطابه في 26 نوفمبر من عام 1975م أيضًا عرض السلطان قابوس بن سعيد ـ طيب الله
ثراه ـ لجوانب من ثروات الوطن ورؤية السلطنة لاستثمارها اقتصاديا، فقال: «إذا كانت
عائدات النفط هي المصدر الرئيسي لدخلنا في الوقت الحاضر فإننا ندرك أن لدينا مصادر
أخرى وفيرة لا بد من استثمارها لندفع عجلة التنمية والتطور بالسرعة التي نرجوها
لهذه البلاد، ومن هذا المنطلق استحدثنا في العام الماضي وزارة الزراعة والأسماك
والنفط والمعادن لتقوم بخدمات الأبحاث الزراعية والمائية وأبحاث تربية المواشي
وأبحاث التربة، لرفع مستوى المزارع العماني وربطه بأرضه الحبيبة إضافة إلى الأبحاث
في وقاية المزارع والحيوانات من الأمراض والآفات التي قد تصيبها».
وهنا يتضح المبدأ الثاني من الرؤية العمانية للاقتصاد الوطني وهو تنويع مصادر
الدخل سواء على صعيد الزراعة أو الصناعة أو التعدين أو تنمية الثروة الحيوانية أو
السمكية وغيرها من المصادر التي تسهم في فتح آفاق جديدة للاقتصاد الوطني، وذلك
بربطها بالتقانة الحديثة، واستنادها إلى البحث العلمي. وفي هذا السياق تم النظر
إلى الثروة السمكية باعتبارها مصدرًا من مصادر الدخل، وهو مصدر جرى استثماره على
النحو الذي يضمن الزيادة في المعروض المحلي منه، وتوفيره بأسعار مناسبة اسهامًا في
خفض تكايف المعيشة إلى جانب استثماره في التصدير لرفع مستوى الدخل القومي.
وبطبيعة الحال لم يكن مجال النفط وهو مصدر الدخل الأساسي للسلطة بعيدًا عن الرؤية
الجديدة للاقتصاد الوطني القائمة على العلمية والتخطيط وحسن الاستغلال إذ جرى
توسيع عمليات التنقيب والكشف والتعاقد مع عدة شركات أجنبية للقيام بذلك، وحرصت
السلطنة على الاستفادة من موارد الغاز الذي يصاحب عمليات الاستخراج وهو ما لم يكن
مستغلًا من قبل بهدف الاستفادة منه في تصنيع الأسمدة الكيماوية. كما جرت الأبحاث
للكشف عن ثروات الوطن من المعادن كالنحاس وغيرها.
وشهدت السنوات الخمس الأولى من عمر عُمان الحديثة (1970ـ 1975) تطورًا ملحوظًا في
الاقتصاد بُذلت خلالها جهود جبارة في تحقيق الخدمات الأساسية والبنى التحتية
لتعويض ما كانت تفتقده البلاد من المؤسسات التعليمية والصحية والاجتماعية والطرق
والشبكات والمياه والكهرباء.
مرحلة جديدة
وفي السنوات الخمس التالية من عمر النهضة بدأت مرحلة جديدة للاقتصاد العماني قامت
على تنفيذ أول خطة خمسية تستهدف رخاء المجتمع، وكانت هذه الخطة بداية لاستراتيجية
التنمية طويلة الأجل التي استمرت حتى نهاية الخطة الخمسية الرابعة (1991– 1995)
التي ارتكزت على عشرة أهداف رئيسية هي:
أولا: العمل على تنمية مصادر جديدة للدخل القومي تقف إلى جوار الإيرادات النفطية
وتحل محلها في المستقبل.
ثانيا: زيادة نسبة الاستثمارات الموجهة إلى المشروعات الموسعة للدخل وعلى وجه
الخصوص في مجالات الصناعة والتعدين والزراعة والأسماك.
ثالثا: توزيع الاستثمارات جغرافيا بحيث تعود بالنفع على مختلف مناطق البلاد.
رابعا: دعم وتنمية المراكز السكانية (بحسب ما كان قائما في عام 1975م عندما صدرت
الاستراتيجية) والمحافظة عليها من خطر الهجرات الجماعية إلى مراكز التجمع السكنية
الكثيفة والمحافظة على البيئة.
خامسا: الاهتمام بموارد المياه باعتبارها عنصرا حيويا لازما لاستمرار النشاط
الاقتصادي ونموه.
سادسا: الاهتمام بتنمية الموارد البشرية المحلية حتى تتمكن من القيام بدورها كاملا
في الاقتصاد الوطني.
سابعا: استكمال هياكل البنية الأساسية.
ثامنا: دعم النشاط التجاري المحلي وإزالة صعوبات النقل والتخزين ومختلف العوائق
التي تنتقص من اكتمال الأسواق التجارية وذلك بهدف زيادة النشاط التنافسي فيها
وكفالة مستوى معقول من الأسعار.
تاسعا: استكمال مقومات قيام اقتصاد وطني حر يرتكز على أساس المنافسة الحرة البعيدة
عن الاحتكار وذلك عن طريق تقديم الحوافز والإعفاءات الضريبية المناسبة وتقديم
القروض للمشروعات الإنتاجية بشروط معقولة، وكذلك عن طريق المساهمة في رأسمال
المشروعات الحيوية بما يتناسب والموارد المتاحة للدولة.
عاشرا: رفع كفاءة الجهاز الإداري للدولة.
وبنهاية الخطة الخمسية الأولى سجل الموقف المالي للسلطنة تحسنا ملحوظا، وحققت
المالية العامة توازنا في الإيرادات والمصرفات، وبالرجوع إلى عام 1970م بلغت
الإيرادات الحكومية في ذلك العام 45.4 مليون ريال من بينها 44.4 مليون ريال هي
إيرادات النفط، أي ان إيرادات النفط مثلت 97.9 بالمائة من إجمالي الإيرادات، وفي
السنوات التالية سجلت الإيرادات الحكومية ارتفاعا تدريجيا لتبلغ 459.3 مليون ريال
في عام 1975م من بينها 373.1 مليون ريال إيرادات النفط.
وتشير الإحصائيات إلى ان الإيرادات ارتفعت خلال سنوات الخطة الخمسية الأولى (1976م
– 1980م) إلى 3.703 مليار ريال مقابل 1.006 مليار ريال في الفترة من 1971م إلى
1975م، ورفعت الحكومة حجم إنفاقها من 1.044 مليار ريال إلى 3.589 مليار ريال، مع
الإشارة إلى أن إيرادات النفط خلال الخطة الخمسية الأولى بلغت 2.861 مليار ريال
مثلت 77.2 بالمائة من إجمالي الإيرادات، وانخفض حجم الدين العام للدولة من 224
مليون ريال في نهاية ديسمبر 1976م إلى 170 مليون ريال في نهاية ديسمبر 1980م. وحقق
الناتج المحلي الإجمالي خلال سنوات الخطة نموًا بنسبة 20.3 بالمائة سنويا في
المتوسط، وارتفع إجمالي المشروعات الإنمائية المنفذة إلى 1.670 مليار ريال مقابل
554 مليون ريال في الفترة من 1971م إلى 1975م، وحققت القطاعات غير النفطية نموا
بلغ في متوسطه 19.7 بالمائة.
تشجيع القطاع الخاص
وإذا كانت الرؤية العمانية للاقتصاد الوطني قد اتجهت نحو الاقتصاد الحر بعيدًا عن
الاحتكار فإنها ومنذ بدايتها سعت إلى دعم وتشجيع القطاع الخاص المشتغل بالأنشطة
الإنتاجية، حيث تم إنشاء صندوق لدعم الصيادين، وآخر لدعم المزارعين، وتطبيق نظام
الدعم المالي لمنتجي البسور وإنشاء بنك تنمية عمان لتقديم القروض متوسطة وطويلة
الأجل للمساهمة في تمويل المشروعات.
وخلال الفترة من 1970 إلى 1995 تمكنت السلطنة من بناء أسس متينة لاقتصاد متعدد
الموارد انعكست ثماره على مختلف القطاعات والمجالات إلا أنها لم تتوقف عن توسيع الرؤى
وفتح الآفاق لمزيد من التقدم والنمو، حيث تم اتخاذ العديد من الإجراءات بين عامي
1994 و1995 . والتي أسفرت بدورها عن الرؤية المستقبلية للاقتصاد العماني المعروفة
باسم «عمان: 2020» التي كانت بمثابة حلقة الانطلاق الثانية في النماء العماني
وتمثلات الفكر الاقتصادي ونهضته.
وهدفت الرؤية المستقبلية للاقتصاد العماني «عمان: 2020» إلى «ضمان استقرار دخل
الفرد عند مستواه في عام 1995م كحد أدنى والسعي إلى مضاعفته بالقيمة الحقيقية
بحلول عام 2020م وذلك بجعل فترة الخطة الخمسية الخامسة التي تنتهي في 2020م مرحلة
انتقالية تعمل فيها الحكومة على تحقيق التوازن بين الإيرادات والاستخدامات وصولا
إلى موازنة الإيرادات والإنفاق في نهاية الخطة»، كما هدفت إلى «تهيئة الظروف
الملائمة للانطلاق الاقتصادي» بحيث «تعمل الحكومة على استخدام عائداتها من النفط
والغاز لتحقيق التنويع الاقتصادي المستمر والمتجدد، كما تتحمل مسؤولياتها كاملة
تجاه تقديم الخدمات الصحية والتعليمية الأساسية وتطويرها، وتدريب المواطنين وتنمية
مهاراتهم إضافة إلى انتهاج سياسات تهدف إلى تعزيز المستوى المعيشي للمواطن». وقد
تطلب الأمر مزيدًا من العمل وفق خطة متكاملة للتنويع الاقتصادي بهدف بناء اقتصاد
مستقر يحقق ديمومة عالية واستدامة في العطاء والتنمية.
عصر الصناعات الثقيلة
ومع وضع حجر الأساس لمجمع تسييل الغاز بولاية صور في عام 1996م انتقلت السلطنة إلى
عصر الصناعات الثقيلة لتشهد اليوم مشروعات صناعية عديدة تتوزع على مختلف ربوع
السلطنة، وتعكس صورة مشرقة لعمان الحديثة. ففي صحار يأتي ميناء صحار الذي يحتضن
صناعات الألمنيوم والحديد والبتروكيماويات، وفي محافظة ظفار تتجلى المشروعات
الصناعية ويأتي ميناء صلالة كأحد الموانئ الرئيسية في المنطقة، وتشهد صور مشروعات
الغاز الطبيعي المسال، وفي المنطقة الوسطى تزدهر المنطقة الاقتصادية بالدقم والحوض
الجاف وهو مشروع استراتيجي بعيد المدى يعكس الرؤية العميقة لتحرير الجغرافيا من
فكرها التقليدي بما يخدم كل الإقليم الخليجي وليس عمان وحدها. والحال نفسه يمكن
متابعته في مسندم والبريمي والظاهرة والداخلية حيث العديد من المشاريع الاقتصادية
والسياحية ذات الأهمية.
لقد تمكنت السلطنة عبر رؤيتها وخططها للاقتصاد الوطني القائم على تنويع مصادر
الدخل واستثمار الموارد الطبيعية من المحافظة على مستويات نمو جيدة، واستطاعت خلال
السنوات الماضية اظهار قدرتها على استيعاب التداعيات السلبية للأزمات المالية
والاقتصادية العالمية والتراجع الحاد في أسعار النفط وغيرها من التحديات التي
تواجه العالم. وحافظت السلطنة على استقرار الوطن وراحة المواطنين في ظل اقتصاد
يمضي نحو أهدافه المنشودة ويواكب عصر التقنية الحديثة.
وتأتي رؤية «عمان 2040» لاستشراف الآفاق البعيدة للنهضة العمانية وفق توافق مجتمعي
واسع وبمشاركة من جميع فئات المجتمع، كما تأتي كدليل ومرجع أساسي لأعمال التخطيط
في العقدين القادمين آخذة بعين الاعتبار موقع السلطنة في عالم جديد سريع التغير
والتحرك والتوسع المعرفي والتقني.