المشهد أقسى من أن يوصف بكلمات، فهو أشبه بانسلاخ الروح وفصلها عن الجسد وأنت في كامل وعيك..!! انتظار الموت كل لحظة في ظل العدوان الإسرائيلي على صبايا وأطفال ونساء ورجال غزة يجعلك آخر يجعلك بحاجة لإعادة اكتشاف نفسك.
الأمهات يحتضن البيوت والأطفال معا.. عائلات اختفت بمنتهى البساطة بعد أن كانت تزقزق كما العصافير- لم تكن في قمة سعادتها لكنها كانت تنبض بالحياة .. عائلات بأكملها دون مقدمات مسحت تواريخ ميلادها، وأماكن سكناها، وأرقام هوياتها، ألبومات الصور، وشهادات الصغار والكبار.. أبيدت عائلات في غزة بصاروخ إسرائيلي مزج أجسادهم مع كل حجر بنوه بعرقهم، اختلط دمهم.. الابنة والأم والأب والأخ وعرائس الصغيرات وسجادة الصلاة..!! امتزجت عيونهم، ولون شعرهم، وتطابقت أقدام الصغار والكبار بعد أن أصبحت كتلة لحم كبيرة تتناثر بينها شبابيك الدار وأبوابه حتى الأقلام والدفاتر غدت جزءا من أجسادهم..!! لم أقل أنهم أصبحوا أشلاء بل بات كل جزء من كل فرد في العائلة معانقا جزءا من الدار.. حتى الفناء احتضن بقايا ثيابهم المحترقة وتنفس من غبار البيت..
لا تحاولوا أن تسألوا ماذا كانوا يفعلون قبل القصف بلحظات..!! كانوا نائمين !! كانوا يحتضنون بعضهم بعضا !! كانوا يصلون !! كانوا يقرأون القرآن!! كانوا يتسحرون يفطرن!! لا تتعبوا ذاكرتكم بما كانوا يفعلون فهم لا يريدون أن يصدر أحدكم ضجيجا من التفكير كي يغفو بهدوء.. إنهم يحاولون الآن أن يتذكروا أشكالهم.. وجوههم كيف كانت؟!! اتركوهم فالملائكة ستساعدهم على التذكر وستساعدهم على النسيان..!! سيلقي الله الرحمة في أطيافهم وينسون ألمهم وموتهم المفاجئ لكن أنتم يا من بقيتم على قيد الحياة من سيكون في عونكم؟؟ وهل أنتم على يقين أنكم لازلتم على قيد الحياة بعد أن انسل جزء من الروح مع كل عائلة غادرت بعجلة ودون وداع..!!
المشهد ليس تقريرا صحافيا وليس قصة إنسانية وليس خبرا عاجلا فحسب.. المشهد ليس بحاجة لتعقيب إنه بحاجة لصمت مقدس.. بحاجة لأن نتلو الصلوات وأن نحاول أن نرتل القرآن قليلا علنا نجلب بعضا من السكينة والهدوء لقلوبنا الثائرة التي غدت غبارا..!! بحاجة لأن نغمض أعيننا ونخشع لأجل الحياة.. بحاجة إلى أن نرى الله معا..
المشهد رائحة دمار وغبار وأتربة ورائحة لحم مشوي ولون قرمزي في السماء.. البحر هرب من غزة إلى الامتداد الآخر في العالم كل لا يبتلعوه بقذائفهم.. هرب بعيدا عن هدير القلوب المشتعلة في غزة..!! المشهد بات أما تبحث عن صغار لم يلدهم بطنها وهم يبحثون بدورهم عن مراكب تقلهم إلى الله وقد نمت لهم أجنحة من نور..
أنت لم تعد أنت وسط الحرب بل غدوت آخر وسط هذا الخراب والدمار.. أنت تدافع عن وجودك بطريقتك ..تغني بطريقتك تبكي بطريقتك
حالة من الارتباك تصيبك حين يقف الموت على بابك ثم يودعك ويرحل قاصدا آخرين..
حالة من الوجع تعصر وجدانك حين تكتشف أنك لم تعرف الحياة بعد.!! كنت تظن أن حياتك بسيطة لكنها تغدو حبيبتك التي لم تلتقيها بعد وسط الحرب.!
الموت حالة استقرار وهدوء لكن الكارثة هي حالة الارتباك والترقب والخوف من المجهول حين تصيبك بالتبلد أو تصبح كمن يعيش فوق صفيح متجمر فتظل تقفز طالما الموت يتوزع حولك كحبات المطر..
الأقسى حالة اللاحياة واللاموت ..!!
كيف يمكنك أن تمارس طقوسهما وأنت آخر تبحث عن مشهد لوصفه..
عن المشهد..
عن ماذا أحدثكم عن الفراشات المضيئة التي أصبحنا نراها معا وسط الدماء.. أم عن الأزهار التي تولد فوق كل بيت مهدوم..
أم عن الشفق الهارب في عيون أطفال غزة.. فاشتعال النيران في قلوب الأمهات يوجع كثيرا..
صمت الأمكنة بعد ليلة دامية أكثر ما يخيفني في هذا المشهد.. الصمت أشبه بسكين يحز شرايين الحياة.. أصبحنا مرهفي السمع نصغي لطرقة الباب قبل أن يصدر صوتا.. بل أصابنا الطرش من شدة صوت الانفجارات وزلزلة أرجاء البيت مرات ومرات..
الشارع صامت ابتلع بدايته والعصافير جاءت الآن بالعشرات كأنما تواسينا في ليلتنا الدامية.. للعصافير أصوات متعددة تشعر أنها تنقر في رأسك وتستغرب كيف تعيش العصافير والطائرات تحت سماء واحدة؟!.. هل العصافير رسل تود أن تخبرنا بالحقيقة ونحن لا نفهم لغة العصافير..!!
لا تسلوني عن الدقائق القادمة من الحياة فهي هبة من الله لا نعرف إن كنا سنراها! لكن سلوني عن الدقائق والساعات الأخيرة لقد حفروها في أجسادنا وأرواحنا.. بإمكانكم أن ترسموا لوحة مبدعة من غبار المعركة على رؤوسنا وبين تضاريس أجسادنا..
سنقبل أن نكون لوحة للتاريخ كي لا يموت الأطفال بصمت وينساهم المشهد ففي حضرة الموت تتوه كل المعاني والصور ويتجلى لحن الخلود.