مذكرة تفاهم وتعاون في مجال التدريب الإعلامي والأنشطة الإعلامية
يوليو 20, 2017
مسيرات وأمسيات شعرية ابتهاجا بيوم النهضة
يوليو 24, 2017

في تاريخ الأمم والشعوب تواريخ ومناسبات لا يمكن تجاوزها دون وقفة تأمل فيما مضى منها وفيما هو آت، لأنها تواريخ ومناسبات محورية تدور حولها الكثير من الآمال والكثير من الطموحات.
ومناسبة الثالث والعشرين من يوليو بالنسبة للعمانيين مناسبة محورية في سياق الحديث عن تاريخ عُمان الحديث، وفي تاريخ التحولات المستقبلية التي حصلت في عمان في ذلك التاريخ وما زالت تحصل حتى اليوم إذا ما نظرنا للمشهد نظرة تكاملية في بُعديه الداخلي والخارجي. ولذلك ليس غريبًا أن يحتفي العمانيون في كل عام بهذه المناسبة وكأنها حصلت أمس، ويعتبرون عُمان في تجلياتها الآنية الحديثة هبة ذلك اليوم بشكل أو بآخر، إضافة إلى كونها في بُعدها العام وفي حضارتها هبة ما صنعه الإنسان العماني نفسه عبر حقب التاريخ الطويلة باعتبار عمان تاريخا طويلا لا يمكن بأي حال من الأحوال التأريخ لانطلاقته بعام 1970 فقط وإلا سنكون قد لغينا، عن جهل، تاريخا طويلا جدا. نعم نؤمن بالتحولات، ونؤمن باللحظات التي تغير مجرى الحياة ومجرى التاريخ لكن الأرضية التي يحدث/‏‏‏ حدث عليها التحول الذي نعيشه كانت موجودة، وإن طفت عليها الكثير من الأتربة والكثير من الغبار.. كانت أرضًا صلبةً جدًا تراكم عليها الإنسان العماني تجاربه ومغامراته ومنجزاته الحضارية والإنسانية ومن أجل ذلك كان الاندفاع نحو الأمام مأمونا وقابلا للتجريب عندما هيأ الله لعمان سلطان/‏‏‏ زعيما يليق بها وبتاريخها ومكانتها ويضعها في مكانتها التي تليق بها.. وإلا كان يمكن للمسيرة أن تتلاشى مع أول رياح عاتية من رياح الخليج التي لا تتوقف، ولا يمكن التنبؤ بوقتها وقوتها.
وإذا كانت الكتابات حول الثالث والعشرين من يوليو كثيرة جدًا إلا أن العميق منها قليل جدًا جدًا، بل ربما نادر، وما كتب حتى الآن لا يخرج عن سياق الكتابات المناسباتية فقط التي تحتفي بالمناسبة، غالبًا، عبر سياقات لغوية مكررة لا أكثر وتحتفي بالمظاهر والإنجازات التنموية، وهي مهمة لا شك، لكنها لا تقرأ المشهد وفق معطيات الأحداث في ذلك الوقت ولا بتوقعات سيرورة التاريخ وحركته الطبيعية. وهذا يحتاج إلى كاتب متجرد من الأهواء بهدف دراسة المرحلة دراسةً حقيقيةً وفق ما يقوله الواقع ويسجله التاريخ.
وفي الحقيقة حتى شخصية السلطان قابوس، -حفظه الله-، التي ينظر لها العالم اليوم بكثير من الإعجاب والتقدير فإنه لم يُكتبُ عنها حتى اليوم الكتابَ الذي تستحقه شخصيته وتجربته وأقول أيضًا عبقريته، ولم تقدم قراءة حقيقية في شخصيته، وفي مصادر بنائها المعرفي، وأبعاد بناء تفكيرها السياسي، دع عنك الكثير من الكتب التي من الصعب أن تخرج منها بشيء جديد أو تحليل عميق يتخذ منهجًا علميًا منضبطًا.
حتى نعرف قيمة 23 يوليو خاصة للأجيال التي لم تعش تلك المرحلة لا بد أن نقرأ المسرح الخلفي الذي كان يحيط بعمان والمنطقة الخليجية والعربية والإقليمية في تلك المرحلة، نهاية ستينات القرن الماضي ومطلع السبعينات.. ليس فقط في المظاهر التي كانت واضحة للعمانيين ويعيشون تفاصيلها بشكل يومي أو للذين مروا على عمان في تلك المرحلة وشاهدوا وكتبوا عن افتقارها لأي مقوم من مقومات الحياة، وأي مظهر من مظاهر الدولة الحديثة، وفق مفهوم تلك المرحلة في منطقة الخليج العربي فقط حيث يدور وعي المقارنات، وإلا فإن العالم كان قد نزل سطح القمر قبل عام 1970 بعامين تقريبا ودارت حروب نووية طاحنة قبل ذلك التاريخ بربع قرن.. ولكن وفق مظاهر وتحولات جيوسياسية دولية محيطة بعمان ومحيطها العربي: وفق إعادة بناء المنطقة ورسمها سياسيًا وبناء تحالفاتها العسكرية وتوزيع مناطق النفوذ فيها بناء على أبعاد اقتصادية وثقافية ورؤية عالمية لمستقبل المنطقة العربية والخليجية منها بشكل خاص بعد ظهور النفط. حيث كانت بريطانيا على وشك الانسحاب من المناطق الواقعة شرق السويس وفق ما قررته حكومة حزب العمال في ذلك الوقت، واستعداد أمريكا لملء الفراغ البريطاني المحتمل سواء بدخولها المباشر أو عبر حلفائها.. كانت أمريكا أيضًا في الوقت نفسه تحارب الاتحاد السوفييتي على أرض مصر وسوريا، وكل منهما يريد أن يثبت أن سلاحه هو الأقوى في المعركة، وكانت خارطة الخليج العربي على وشك أن يعاد رسمها من جديد لتظهر دويلات صغيرة، وتختفي أخرى وفق إرادات شركات النفط العالمية بكل ما ورثته في دولها من إمبريالية مقيتة دون النظر إلى المعطيات التاريخية والثقافية للكيانات الجديدة. الاتحاد السوفييتي نفسه كان يتسلل إلى منطقة الخليج عبر المد الشيوعي وعبر الفكر الاشتراكي الذي رأت فيه الكثير من الجماهير العربية حلم الخلاص.
وأيضا ووفق معادلة توطين الدولة الصهيونية في خاصرة العالم العربي ولاحقًا التطبيع معها، ووفق ما كان يحصل في شبه القارة الهندية، وفي أفغانستان وشمال وشرق أفريقيا ووفق سقوط ممالك وقيام جمهوريات في الجوار القريب والبعيد ووفق التحولات التي كانت تشهدها إيران شرطي أمريكا في المنطقة ووفق حركات التحرر الوطني في جميع البلاد العربية، ووفق صرخة الزعيم عبد الناصر «ارفع رأسك يا أخي فقد انتهى عصر الاستعباد».. وأيضا وفق الصرعات العربية ـ العربية وما حملته من أطماع الجار في الجار مع تدفق الذهب الأسود في كل مكان في منطقة الخليج العربي الذي إن لم يكن طمعًا أصيلًا في الشخصية العربية فهو مستحدث بناء على ضغوطات دولية من شركات النفط التي كانت، وربما ما زالت، تحكم العالم وتسيطر عليه. وداخليًا وفق معطيات كثيرة: وفق انقلاب زنجبار، وانتهاء حكم أسرة آل بوسعيد نهائيًا في شرق إفريقيا بعد قرون من السيطرة، والتحولات التي رافقت ذلك على الداخل العماني، ووفق الصراعات القبلية الطويلة وما صاحبها من حروب أهلية، ووفق ثنائية الإمامة والسلطنة، والداخل والساحل، ووفق طموحات العمانيين في عودة إمبراطوريتهم العظمى وتاريخهم في توازنات المنطقة، ووفق صراعات التيارات الفكرية التي تمظهرت على السطح وتحولت من التنظير اللغوي إلى الفعل المسلح أحيانًا. وأيضا في ثنائية الأصالة والمعاصرة، الأصالة التي يفرضها الامتداد التاريخي لعمان والعمانيين والمعاصرة التي تريد الدولة الحديث الدخول بها نحو المستقبل. وفق هذه السياقات الخارجية والداخلية علينا أن نقرأ يوم 23 يوليو. ونفهم احتفاء العمانيين به، وفي هذا السياق علينا أن نقرأ عبقرية صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد -حفظه الله- وهو يتحرك بعُمان نحو المستقبل وسط هذا الحقل من الألغام والأشواك الشائكة مجنبا إياها كل سوء.
لم يكن التحدي الكبير أمام السلطان قابوس يوم استلم مقاليد الحكم في الثالث والعشرين من يوليو قبل 47 عاما الموارد الاقتصادية، رغم شحها. ولم تكن عبقرية السلطان قابوس في بناء الشوارع والحجر بشكل عام، بل كان في بناء دولة مستقرة «موحدة» وسط حقل صراعات داخلية وخارجية ووسط تجاذبات عالمية وصراع قوى عظمى ليس على صفحات الجرائد والمجلات ولكنها كانت صراعات ميدانية جيّش لها كل شيء.
واليوم عندما ننظر إلى الخارطة ونرسم دوائر حمراء على مراكز الصراعات التي كانت تحيط بعمان، وكيف استطاعت بقيادة جلالة السلطان -حفظه الله- وبوعي الإنسان العماني تجاوزها والنأي عنها نعرف قيمة التحول الذي حصل، ونعرف حقيقة شخصية جلالة السلطان، -حفظه الله وأعزه- وعبقريتها، ولذلك أقول إن هذه الشخصية لم تدرس حتى الآن الدراسة التي تستحقها.
لم يكن حُكم عُمان في يوم من الأيام بالأمر السهل أبدا، وليس هذا في التاريخ الحديث فقط، ولكن تاريخيا كان حكم عمان يحتاج إلى الكثير من القوة والكثير من العبقرية والكثير من السياسة داخليا وخارجيا. وقدر عمان وفق موقعها الجغرافي وما يحيط بها جعلها في هذا السياق إضافة إلى أمور أخرى كثيرة. ولذلك مرت عُمان بالكثير من التقلبات بين مراحل قوة ومراحل ضعف بحسب قوة وحنكة من يحكمها والظروف المحيطة به وبها.. ووفق ذلك أستطيع القول، بكل اطمئنان، إن جلالة السلطان قابوس أهم شخصية حكمت عمان، وإن شئت أن أقاربه فإنني أقاربه بشخصية الإمام ناصر بن مرشد اليعربي الذي وحد عمان وطرد البرتغاليين في القرن السابع عشر الميلادي.
فجلالة السلطان قابوس، وإن كان قد وجد والده قد وحدّ عمان إلا أن الأمر كان يحتاج إلى جهد كبير وصراع أكبر من أجل أن تصبح تلك الوحدة حقيقية، ويصبح الشعب العماني بكل أطيافه وأعراقه ومذاهبه وحدة واحدة حقيقية ومنسجمة مع بعضها البعض. وهذا، ربما، ما جنب عمان الكثير من الحروب التي تطحن العالم العربي في الجوار بناء على أمراض مذهبية وطائفية.
وشخصيًا أرى أن قراءة جلالة السلطان قابوس بن سعيد -حفظه الله- للتاريخ العربي وتاريخ عمان بشكل عام قراءة عميقة راسخة غير متعصبة، وتاريخ صراعات وعلاقات المنطقة، هو الذي جعل شخصيته تسير وفق هذا المسار وتتبنى هذه السياسات التي أكسبت عمان وأكسبته قوة ناعمة عالمية تعرفها اليوم حتى القوى العظمى وتلجأ إليها لحلحلت الكثير من المشاكل العربية والإقليمية. وإذا كانت الأحداث وتطوراتها تفرض الجانب المتغير في السياسة فإن فكر صاحب الجلالة أبقى الثابت ثابتًا لا جدال فيه وغير قابل لأي مساومة. سواء كان ذلك الثابت ثابتًا بحكم القيم والأعراف الإسلامية والعالمية أو كان ثابتًا بحكم الجغرافيا. وهذا زاد ثقة العالم بالسياسة العمانية إضافة إلى معرفة راسخة أن عُمان وسياستها بقيت بعيدة عن الأجندات الخارجية إلا إنها كانت في إطار دعوة إلى حوار أو دعما لسلام يصنع أمنًا وأمانًا للجميع.
لهذه الأسباب نقف إجلالا وإكراما لهذه المناسبة الاستثنائية وللحقبة «القابوسية» المستمرة في بناء عمان، وفي بناء وترسيخ قيمها السياسية التي، لا شك، سيخلدها التاريخ، وسيخلد ذكر زعيمها وقائدها الذي استطاع أن يستوعب آمال العمانيين وطموحاتهم التي لا حصر لها. وختامًا أستعير مقولة شهيرة لساطع الحصري وصف بها الزعيم جمال عبد الناصر «إنه رجل اتسعت همته لآمال أمته» كذلك جلالة السلطان -حفظه الله- فقد اتسعت همته لآمال شعبه، واستوعبت سياسته كل المتغيرات حوله وبقيت عمان راسخة، بفضل الله، لا تتزعزع رغم كل الأعاصير المحيطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *